الذاكرة الثقافية

الذاكرة الثقافية






ليست الذاكرة الثقافية توقفات معادة لتفاصيل قائمة في الزمان وليست تحديداً مُعطى لنمذجة مقدسة ما . إن الذاكرة الثقافية فعل سيروري حضاري متطور في بنيته ومساره أبداً، ومكون من تراكم فكري وترابط جدلي بين المكونات الاجتماعية المكوِّنة لمسار البنية المعرفية الثقافية للمجتمع ذاته بحيث لا تكون تلك الذاكرة طقساً جامداً معنياً بمواصفات قائمة على الفعل التقليدي المرتبط بالماضي التاريخي لكتلة اجتماعية ما (شعب أو أمّة) في موضع محدد بحيث لا تدخل تلك الذاكرة بما يشبه علاقة الماضي والحاضر وحسب بل بملامح تلك الكتلة التي تشكل تأسيساً بنيوياً للذاكرة الثقافية فتبدو مرتبطة بمعنى الزمان الاجتماعي والمعرفي وحتى السياسي، وهذا الأخير تحدده التعبيرات الفكرية ومنظومة العقل الجمعي في تعامله مع أسئلة الماضي التي لا يمكن عزلها،بمفهومها المعرفي، عن منظومة الوعي .. من هنا يمكن القول بأن الذاكرة الثقافية بمفهومها التالي نتاج تطور طبيعي مرتبط بوعي الجماعة الذي يفرض نفسه وكأنه عقد ثقافي خالص ومستقل .



كيف يمكن لنا أن نفهم تلك العلاقة إذا أردنا عزل الثقافة عن إطارها المعرفي وتجربتها الخاصة أو العامة؟ ألا يعني ذلك، إعادة تفعيل الشك وخلق الإشتباه بالذاكرة الثقافية بمعانيها، القديم والحديث؟ ألا يتطابق ذلك القول بمعناه الأساسي مع الطرح التقليدي؟ إلا إذا كان هناك التباس في معنى الذاكرة المعنية بالثقافة وما اختزنته عبر مسار التأريخ من بُنى معرفية تحدد بصمات تلك الذاكرة بما يميزها في مسألة التكوين واعني هنا تكوين الأمة بتمثلاتها المتعددة المتعلقة بالقرار الواعي للأفراد حتى وأن تدخل الإدراك الجمعي من خلال منظومة الوعي المدرك للعلاقة المتبادلة القائمة بين الخاص والعام .



ثمة من يقول : التاريخ شاهد أعمى، لأنه لا يرى بعينيه وإنما بعيون الحاضر .. لا يرانا التاريخ إلا كما نرى أنفسنا وذاكرتنا ثقافياً أما نظرتنا الثقافية إليه فمسكونة دائماً بما يتعدّاه، كأن هذا الماضي الثقافي (الذاكرة) المنقوش بانجازات مبدعة لا يفتح ألغازه لقراءة خاصة به إلا إذا كانت، في الوقت عينه، قراءة تتجاوز المألوف نحو معارف الحياة الكامنة تحت كثافة الذاكرة الثقافية الحقيقية التي تستدرج المحطات التاريخية إلى مسار جديد وفي هذا المسار الذي يبدو عودة إلى الزمان من زمان آخر أو تغييراً معرفياً في مجرى قراءتنا للأحداث التي تشكل الأهداف الإنسانية العامة منها والخاصة بصورة واعية تماماً .



ليست الذاكرة الثقافية إلا لحظة هي الدافع إلى البحث عن تؤام تتقاسم معه ألغاز الماضي وتنخرط إلى جانبه مغامرات المستقبل التي تبدو باسمة مشرقة ومقبلة على الحياة تعبّ منها بغير حساب، وما يهمّني في هذه النقطة بالذات هو الإشارة إلى ما يمكن اعتباره مشتركات ثقافية عدة يجدر بكل المعنيين بالثقافة مراجعتها أو الاهتمام بها والتدقيق بجدواها .



ليس من شك بأن الذاكرة الثقافية بالمعنى المعرفي للكلمة التي تتجلى دورياً في العملية الإبداعية، لأمة ما، تفرز ظواهر الركود الثقافي وتراجع المنجز الإبداعي خلال فترات غير محددة تحمل معها الكثير من التفاصيل المتعلقة بكل الفنون الأدبية، لكن بالرغم من كل ذلك يبقى السؤال الجوهري مطروحاً : هل أن الذاكرة الثقافية هي حقاً مجرد مراجعة عابرة لا تمس أسس الثقافة الأصيلة بحيث تكون هذه الأخيرة قادرة على البقاء؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي العودة إلى مفهوم الثقافة وتجلياتها خلال نصف القرن المنصرم وآفاقها المقبلة، لكي لا تتزايد حدة التناقض بين التملك الثقافي من جهة وانتقال هذا التملك إلى المستقبل من جهة ثانية بفعل الممارسات المختلة التي تريد أن تعود بنا إلى ذلك الزمان .. زمان التحكم بكل شيء ثقافي .